فصل: (سورة فاطر: آية 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي داوُد الحراني قال: حدّثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول الله عز وجل: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قال حزن الخبز.
عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، وقيل: حزن الموت، وقيل: حزن الجنة والنار لا يُدرى إلى أيهما يصير. الثمالي: حزن الدنيا. الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. ذو النون: حزن القطيعة.
الكلبي: يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة، وقيل: حزن العذاب والحساب، وقيل: حزن أهوال الدنيا وأوجالها، وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة.
وسمعت السلمي يقول: سمعت النصرآبادي يقول: ما كان حزنهم إلاّ تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم، فلما نجوا منها حمدوا {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}، أخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرَّحْمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس على أهل لا إله إلاّ الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل لا إله إلاّ الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}».
{الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} أي الإمامة {مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي كلال وإعياء وفتور، وقراءة العامة بضم اللام، وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضًا كالولوع، وقال الفراء: كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال: أبو عبد الله محمد بن زكريا بن محمدويه الرجل الصالح عن عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال: حدّثنا عاصم بن عبد الله قال: حدّثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول الله سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قال: إذا دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون. قال: فيبعث الله ملكًا من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه. قال: فيُريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت فيقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه. مكتوب في أول خاتم منها: {طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وفي الثاني مكتوب: {ادخلوها بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} [ق: 34]، وفي الثالث مكتوب: رفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابع مكتوب: زوجناكم الحور العين، وفي الخامس مكتوب: {ادخلوها بسلام آمنين}، وفي السادس مكتوب: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} [المؤمنون: 111]، وفي السابع مكتوب: إنهم هم الفائزون، وفي الثامن: صرتم آمنين لا تخافون، وفي التاسع مكتوب: رافقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشر مكتوب: سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران. ثم تقول الملائكة: {ادخلوها بسلام آمنين}.
فلما دخلوا بيوتًا ترفع و{قَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} إلى قوله: {لُغُوبٌ}.
{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} أي لا يقبضون فيستريحون.
وذكر عن الحسن: فيموتون، و{لاَ} يكون حينئذ جوابًا للنفي، والمعنى: لا يقضى عليهم ولا يموتون. كقوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36].
{وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} قراءة العامة بنصب النون واللام وقرأ أبو عمرو بضم الياء واللام وفتح الزاي على غير تسمية الفاعل.
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ}: يدعون ويستغيثون ويصيحون فيها، وهو افتعال من الصراخ، ويُقال للمغيث: صارخ وللمستغيث: صارخ.
{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} من النار {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} في الدُّنيا، فيقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}. اختلفوا في هذه المدة، فقال قتادة والكلبي: ثماني عشرة سنة، وقال الحسن: أربعون سنة، وقال ابن عباس: ستون سنة.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان قالا: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة حدّثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرَّحْمن بن أبي حصين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا كان يوم القيامة نُودي أين أبناء الستين؟ وهو الذي قال الله عز وجل فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن حرجة قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: حدّثنا الحجبي عن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يُحدث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر».
وأخبرني ابن فنجويه عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن إبراهيم بن سهلويه عن الحسين بن عرفة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أُمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معترك منايا أُمتي ما بين الستين إلى السبعين».
{وَجَاءَكُمُ النذير} أي الرسول، وقال زيد بن علي: القرآن، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل: يعني الشيب، وفيه قيل:
رأيت الشيب من نُذُر المنايا ** لصاحبها وحسبك من نذيرِ

فحدّ الشيبِ أُهبة ذي وقار ** فلا خلفٌ يكون مع القتير

وقال آخر:
وقائلة تبيض والغواني ** نوافر عن معاينة القتير

فقلت لها المشيب نذير عمري ** ولستُ مسودًا وجه النذير

{فَذُوقُواْ} أي العذاب {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إلا مقتا} غضبًا {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} أي في الأرض {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} يأمرهم بذلك {فَهُمْ على بَيِّنَةٍ مِّنْهُ}.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش وحمزة {بَيِّنَةٍ} على الواحد، وقرأ غيرهم {بينات} بالجمع، وهو اختيار أبي عبيد قال: لموافقة الخط. فإني قد رأيتها في بعض المصاحف بالألف والتاء.
{بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، روى مغيرة عن إبراهيم قال: جاء من أصحاب عبد الله بن مسعود إلى كعب ليتعلم من علمه، فلما رجع قال عبد الله: هات الذي أصبت من كعب. قال: سمعت كعبًا يقول: إنّ السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحا في عمود على منكب ملك. فقال عبد الله: وددت أنك انفلتّ من رحلتك براحلتك ورحلها، كذب كعب ما ترك يهوديته بعدُ، إنّ الله عز وجل يقول: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ} الآية، إن السماوات لاتدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وذلك أنّ قريشًا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى دينًا منهم، وهذا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه فأنزل الله عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم}، يعني اليهود والنصارى، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}: محمد صلى الله عليه وسلم {مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} بعدًا ونفارًا.
{استكبارا فِي الأرض} ونصب {استكبارا} على البدل من النفور، قاله الأخفش، وقيل: على المصدر، وقيل: نزع الخافض.
{وَمَكْرَ السيىء} يعني العمل القبيح، وقال الكلبي: هو إجماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ}، أي لا يحل ولا ينزل، ويحيط ويلحق فقتلوا يوم بدر، وقراءة العامة {السيىء}: بإشباع الإعراب فيها، وجزم الأعمش وحمزة {ومكر السَّيْ} تخفيفًا وكراهة لالتقاء الحركات ولم يعملا ذلك في الأُخرى، والقراءة المرضية ما عليه العامة.
وفي الحديث أنّ كعبًا قال لابن عباس: قرأت في التوراة: من حفر حفرة وقع فيها. فقال ابن عباس: أنا أوجد لك ذلك في القرآن، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن الحسن البلخي قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرًا؛ فإن: الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ}، ولا تبغ ولا تعن باغيًا، بقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} [يونس: 23] ولا تنكث ولا تلعن ناكثًا فإنّ الله سبحانه يقول: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10]».
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين} يعني العذاب إذا كفروا {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا}.
{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} من الجرائم {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا}، يعني الأرض كناية عن غير مذكور {مِن دَآبَّةٍ}.
قال الأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة: الناس دون غيرهم، وأجراها الآخرون على العموم. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثني أبو مسعود أحمد بن الفرات قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أصاب الله عز وجل قومًا بعذاب أصاب به من بين ظهرانيهم ثم يبعثون على أعمالهم يوم القيامة».
وقال قتادة في هذه الآية: قد فعل الله ذلك في زمن نوح فأهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حُمل في سفينة نوح، وقال ابن مسعود: كاد الجعل يُعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ هذه الآية، وقال أنس: إنّ الضب ليموت هزلًا في جحره بذنب ابن آدم، وقال يحيى ابن أبي كثير: أمر رجل بمعروف ونهى عن منكر، فقال له رجل: عليك نفسك فإنّ الظالم لا يضر إلاّ نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت والذي نفسي بيده، إنّ الحباري لتموت هزلًا في وكرها بظلم الظالم.
وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: يحبس المطر فيهلك كل شيء.
{ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة فاطر: الآيات 15- 17]:

{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}.
فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم، لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر وقد شهد اللّه سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله {وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفًا} وقال سبحانه وتعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل الفقراء بالغنى، فما فائدة الحميد؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم- وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغنىّ جوادا منعما، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد- ذكر الحميد ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه، الحميد على ألسنة مؤمنيهم بِعَزِيزٍ بممتنع، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أندادا، وكفرهم بآياته ومعاصيهم، كما قال {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئا.

.[سورة فاطر: آية 18]:

{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}.
الوزر والوقر: أخوان، ووزر الشيء إذا حمله. والوازرة: صفة للنفس، والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته: لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا: الولي بالولى، والجار بالجار. فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟
ولم قيل وازرة؟ قلت: لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها، لا وزر غيرها. فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين قوله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ}؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم. ألا ترى كيف كذبهم اللّه تعالى في قولهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ بقوله تعالى {وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شيء}.
فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} وبين معنى {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شيء}؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل اللّه تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها، والثاني في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفسا قد أثقلها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ. فإن قلت: إلام أسند كان في {وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى}؟.
قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت:
ليعمّ، ويشمل كل مدعوّ. فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل. فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ {وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} على كان التامّة، كقوله تعالى {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ}؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة، لأنّ المعنى على أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه شيء، وإن كان مدعوّها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه، على أنّ هاهنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول، أي: يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائبا عنهم. وقيل: بالغيب في السر، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا اللّه، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا، يعنى: إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم {وَمَنْ تَزَكَّى} ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي. وقرئ: {ومن ازكى فإنما يزكى} وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة، لأنهما من جملة التزكى وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وعد للمتزكين بالثواب. فإن قلت: كيف اتصل قوله {إِنَّما تُنْذِرُ} بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال {إِنَّما تُنْذِرُ} كأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل {إِنَّما تُنْذِرُ} أو أخبره اللّه تعالى بعلمه فيهم.